الشيطان يحكم _ الدكتور مصطفى محمود

اقتباسات و مسارات من فلسفة مصطفى محمود و تجليات الحقيقة في كتاباته و أفكاره في الحياة و الوجود ، رحلة الإكتشاف الروحي و تفكيره في مدونة حياتنا _ قصص الأنبياء من القرآن الكريم و السنة النبوية و هم حسب الترتيب الزمني : آدم ، شيث ، ادريس ، نوح ، هود ، صالح ، ابراهيم ، لوط ، اسماعيل ، اسحاق ، يعقوب ، يوسف ، أيوب ، ذو الكفل ، يونس ، شعيب ، أنبياء أهل القرية ، موسى ، هارون ، يوشع بن نون ، داوود ، سليمان ، الياس ، اليسع ، عزير ، زكريا ، يحيى ، عيسى ، محمد . عليهم و على نبينا الصلاة و السلام
![]() |
أكاد أتخيله عليه الصلاة والسلام من الأوصاف التي وصلتنا في كتب السيرة . . وسطاً في الطول .. ربعة.. ضخم الرأس .. واسع الجبين .. مدور الوجه .. أزهر اللون .. واسع العينين طويل الأهداب شديد سوادالحدقة .... مفلج الأسنان غزير اللحية .. بين حاجبيه اتصال خفيف .. وفي جبينه عرق يدره الغضب . . عريض الصدر . . كبير الكفين والقدمين .. .. خفيف اللحم متماسك البدن .. إذا مشى ألقى جسده إلىالأمام وسار في خطو ثابت وقد خفض بصره إلى الأرض .. متواصل الأحزان .. دائم الفكرة . . طويلالسكوت .. لا يتكلم في غير حاجة .. فإذا تكلم أوجز وأبلغ .. دمث الطبع دون جفوة ودون رخاوة .. إذاالتفت التفت جميعاً وإذا تكلم تكلم من كل فمه وأشداقه ... وإذا أشار أشار بكفه كلها وإذا تعجب قلبهاوإذا تحدث اتصل بها فضرب بإبهامه اليمنى راحته اليسرى وإذا غضب أعرض وأشاح .. جل ضحكهالتبسم .. لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها .. وإنما يغضب للحق وللدين وحينئذ لا يقوم لغضبه شيء .. ماضرب خادماً ولا امرأة قط وما ضرب بيده شيئاً إلا أن يكون جهاداً في سبيل الله .
تقول عائشة .. لم يمتلئ جوف النبي شبعاً قط وكان يطوي أكثر أيامه صائماً وكنت أقول له : نفسي لكالفدا لو تبلغت من الدنيا بما يقوتك فيقول لي : يا عائشة ما لي وللدنيا إخوانى أولو العزم من الرسلصبروا على ما هو أشد من هذا فمضوا على حالهم فقدموا على ربهم ، فأكرم مآبهم وأجزل ثوابهمفأجدني أستحي إن ترفهت في معيشتي أن يقصر بي غداً دونهم ، . وما من شيء هو أحب إلى مناللحاق بإخواني وأخلائي .
ومع ذلك لم يكن يرفض الهدية تأتيه بالشهي من المأكل والناعم من الملبس ، ولكنة كان يرفض أن يسعىإلى هذا العيش اللين أو يفكر فيه أو ينشغل به ولهذا كان يربي نفسه ويرَّوضها على الفقر والجوعوالقصد في المطالب والرغبات ، ليكون المثل والقدوة لما أراده الإسلام . . دين الاعتدال والتوسط .. فلارهبانية ولا قتل للنفس .. ولا تهالك وإطلاق للشهوات وإنما توسط واعتدال . . وبذلك ينجو الإنسان منسيطرة نفسه ومن سيطرة الآخرين . . فلا يعود لأحد سيادة عليه .. وهذه هي الحرية .. أن يحرر نفسه منجميع المطالب فلا يعود يسمح لشهوته أن تذله لمطعم أو ملبس .. أو مخلوق .
هذا الوسط .. هذا الصراط المستقيم الدقيق أدق من الشعرة بين الإفراط والتفريط هو ما انفردت بهالشريعة وما حققه النبي بسلوكه النادر .. وكان دائماً ذلك الرجل البسيط المتواضع .. تراه في بيته يغسلثوبه ويرقع بردته ويحلب شاته ويخصف نعله . . وتراه يأكل مع الخادم ويعود المريض ويعطى المحتاج .. وتراه وقد احتمل حفدته على كتفيه وراح يصلي .
وكان الحنان والحب مجسدّ
أحب الإنسان والحيوان حتى النبات حنا عليه فكان يوصي بالشجر ألا يقطع .. حتى الجماد شمله بحبهفكان يقول عن جبل أحد . . هذا الجبل يُحبنا و نحبه ..
حتى تراب الأرض كان يمسح به وجهه متوضئاً في حب وهو يقول : .. تمّسحوا بالأرض فإنها بكم برة .
وتروي السيرة أنه لما كسرت رباعيته وشج رأسه يوم أحد شق ذلك على أصحابه فقالوا : لو دعوت عليهمفقال إنى لم أبعث لعاناً ولكني بُعثت داعياً و رحمةً .. اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون .
ولما جاء زيد بن سعنة يتقاضاه دينا عليه وجبذ ثوبه جبذةً منكرة آخذاً مجامع ردائة مغلظاً له قائلا .. إنكميا بنى عبد المطلب مُطلْ فانتهره عمر .. ابتسم النبي قائلا .. أنا وهو كنا إلى غير هذا أحوج يا عمر .. تأمره بحسن التقاضي وتأمرني بحسن القضاء . . ثم قال لقد بقي من أجله ثلاث ( ثلاثة أيام ) وأمر عمرأن يقضيه ماله ويزيده لما روعه فكان هذا سبب إسلامه .
والقصص عن حلمه وعفوه ومحبته كثيرة لا تنتهى .
وكان دائماً ذلك الرجل الكريم الذى وصفه أصحابه بأنه ينفق إنفاق من لا يخشى الفقر أبداً .
لم يحدث أن ادخر درهماً .
وقد مات كما هو معلوم ودرعه مرهونة عند يهودى .
وكان يلخص سنته فيقول : المعرفة رأس مالي ، والعقل أصل ديني ، والحب مذهبي ، والشوق مركبي ،وذكر الله أنيسي ، والحزن رفيقي ، والصبر ردائي ، والصدق شفيعي ، والعلم سلاحى ، والجهاد خلقي ،وقرة عيني في الصلاة .
ذلك هو محمد عليه الصلاة والسلام النبي الأمي الذي تفوق على كل القارئين والكاتبين .. والشريف الذيقال عنه ربه .. وإنك لعلى خلق عظيم .
وكانت ثقافته هي ما قال لأبي بكر .
أدبني ربي فأحسن تأديبي .
وكان بيت النبي في المدينة من جريد يمسكه الطين وكانت بعض حجراته من حجارة مرصوصة وكانتجميعاً مسقوفة بالجريد . . أما سريره فخشبات مشدودة بالليف عليها حشية ليف .
وهذا جهاز فاطمة بنت النبي تصفه السيرة بأنه رحاءان وسقاءان ووسادة من ليف وبعض العطر والطيب… وتروى السيرة أن زوج فاطمة علي بن أبي طالب لم يستطع أن يستأجر لها خادماً لفقره فكانيساعدها في أعمال البيت . . ونراهما يسألان النبي خادماً وقد عاد من إحدى غزواته بسبي وغنائم .. فيجيب النبي عليه الصلاة والسلام :
لا والله لا أعطيكما وأدع الفقراء من المسلمين تتلوى بطونهم لا يجدون ما يأكلون .
ثم ما يلبث أن يقبل عليهما في الليل وقد انكمشا في غطائهما يرتجفان من البرد ، إذا غطيا رأسيهما بدتأقدامهما ، وإذا غطيا أقدامهما انكشفت رأساهما .. فيقومان للقائه فيهمس في حنان .. مكانكما ثميضيف مترفقا .. ألا أخبركما بخير مما سألتماني فيجيب الاثنان بلى يا رسول الله . . فيقول . . كلماتعلمنيهن جبريل . . تسبحان الله في عقب كل صلاة عشراً وتحمدان عشراً وتكبران عشراً .. وإذا أويتهاإلى فراشكما تسبحان ثلاثاً وثلاثين ، وتحمدان ثلاثاً وثلاثين ، وتكبران ثلاثاً وثلاثين .
ويقول الإمام علي .. فو الله ما تركتهن منذ علمنيهن .
ذلك هو عطاء الأنبياء . وإنا لنرى أبوة النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك الصحابي الذي جاء يطلبالإذن فى الجهاد فنراه يسأله . . ألك أبوان . . فيقول . . نعم فيجيبه . . ففيهما فجاهد ..
ونسمع نفس القصة من معاوية بن جاهمة السلمى يقول :
أتيت النبي عليه الصلاة والسلام فقلت له يا رسول الله إني كنت أردت الجهاد معك أبتغى وجه الله والدارالآخرة فإذا به يسألني . . أحية أمك فأقول نعم .. فيجيب .. فارجع .. فبّرها .. ثم إني لآتية من الجانبالآخر ، ثم إني لآتيه من أمامه فأعيد عليه سؤلي فيقول لي .. ويحك فالزم أمك فإن الجنة تحت قدميها .
ويروي أبو أمامة أن رجلا قال .. يا رسول الله ما حق الوالدين على ولدهما فأجابه النبي . . هما جنتكونارك .
ذلك هو النبي الأب الذي كان يسجد فيتسلق حفيده على ظهره فيطيل من سجدته حتى يقضي الطفلحاجته كراهية منه في إزعاجه . فإذا تحدث النبي فإنه لا ينطق عن الهوى ولا يأتى باللغو وإنما ينطقبالحكمة الخالصة .
يصف الجاحظ كلامه فيقول :
هو الكلام الذي قل عدد حروفه وكثر عدد معانيه وجل عن الصنعة ، ونزه ع التكلف ، لا يحتج إلا بالصدقولا يستعين بالخلابة ولا يستعمل المواربة ، ولا يهمز ولا يلمز ، ولا يبطئ ولا يعجل .. لم يقم له خصم ولميفحمه خطيب ، ولم يسمع الناس بكلام أعم نفعاً ، ولا أجمل مذهباً ، ولا أحسن موقعاً ، ولا أسهل مخرجاً ،ولا أفصح عن معناه ، ولا أبين عن فحواه ، من كلامه صلى الله عليه وسلم .
وكثير من كلامه عليه الصلاة والسلام يجري مجرى الأمثال :
لن يهلك امر وبعد مشورة .
رحم الله عبداً قال خيراً فغنم أوسكت فسلم .
ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر فى القلب وصدقه العمل .
نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس .. الصحة والفراغ .
لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين
إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى .
ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يديه .
ليس الشديد بالصرعة (بالقوي) إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب .
اليد العليا خير من اليد السفلى ( أي الذى يعطي خير من الذي يأخذ ) .
وقد عرف عن النبي السهولة واليسر والبعد عن المغالاة وطلب الاعتدال .
وكانت وصيته لسفرائه الذين بعث بهم ليفقهوا الناس في الدين يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنّفروا ،وسددوا (أي اعتدلوا وتوسطوا ) وقاربوا ( أي قاربوا من الغاية ما استطعتم )
إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ، ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله فإن المنبت ( المرهق نفسه فيالسير ) لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى .
ومن ذلك أن رجلا حديث عهد بإسلام جاء النبي فقال له إنه لا يطيق الصلوات كلها وإنه يتعهد ببعضها ،فلم ينهه الرسول ، فتعجب الصحابة فقال لهم بعدما ذهب . . إذا تمكن الإيمان من قلبه فسيصليها جميعاً.
ومن خصائص الإسلام أنه لا يرى الخير الأمثل في حياة الصوامع ، ولا يراه أيضاً في لذات الواقعالهابطة ، وإنما هو يهذب الواقع ما استطاع ويمد منه الجسور ليصعد بها إلى الحياة المثلى خطوة خطوةدون إرهاق للفطرة والطبع .
ولولا هذا الرفق واللين فى تعهد النفس ورياضتها لبقيت المُثل في أبراجها حبرا على ورق ولضاع الإنسانفي حضيض المادة كما تضيع المياة العذبة في ثنايا الرمال
( الدكتور بكرى شيخ أمين فى كتابه أدب الحديث النبوى ) وجاء في الحديث :
ما انتقم رسول الله لنفسه قط وما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً .
جاء أعرابي إلى رسول الله وهو بين صحابته فأعطاه وسأله . . هل أحسنت ؟..
فقال الأعرابي : لا أحسنت ولا أجملت .
فقاموا إليه فقال لهم . . كفوا عنه .
فدخل منزله فأرسل إلى الأعرابي وزاده شيئاً وسأله فأجابه . . جزاك الله من أهل العشيرة خيراً .. فقالالرسول إذا كانت الغداة وحضرت مع أصحابي فقل لهم ما قلت فقد أصبح فى نفوسهم شيء ..
فقالها بحضورهم فذهب ما كانوا يجدون عليه .. ثم قال الرسول مثلي ومثل هذا الأعرابي كرجل له ناقةضلت فأخذ الناس يهيجونها فقال ... خلوا بيني وبين ناقتي فأخذ لها من قمام الأرض هوناً هوناً حتىاستناخت وشد عليها راحلتها .
وفي الحديث الشريف :
سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة ربه ، ورجل قلبه معلق فىالمساجد ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقالإني أخاف الله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها فلا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر الله خالياًففاضت عيناه ..
ومن كلماته البليغة ..
يد الله مع الجماعة وإنما يصيب الذئب من الغنم الشاردة .
حُفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات .
لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به .
وقال للذي تشفع في شأن المرأة المخزومية التي سرقت إنما أُهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرقالشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد . وقال لصحابته ذات يوم . اتدرون من المفلسيوم القيامة ، قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . فقال الرسول المفلس هو من يأتى يوم القيامة وقدشتم هذا ، وضرب هذا ، وأكل مال هذا وسفك دم هذا فيعطى هؤلاء من حسناته حتى إذا نفدت طرح عليهمن خطاياهم ثم طُرح في النار .
وفي رواية مسلم أن النبي قال :
المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير . .
وفي إشادة النبي بالقوة توكيد على أن الإسلام فحولة وليس تخاذلا ورخاوة واستسلاماً .
ويقول الرسول للذي سأله .. أوصني مجيبا إياه في كلمة واحدة . . لا تغضب ، فيكرر السائل سؤاله ثلاثاًفلا يزيد الرسول عن هذه الكلمة .. لا تغضب .
ويقول ..
تفكر وا في المخلوق ولا تفكروا فى الخالق فإن الله لا تحيط به الفكرة .
وعُرف عن النبي أنه كان إذا استشهد بأبيات من الشعر كسر أوزانها عامداً فينطق بيت طرفة المشهورهكذا
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
ويأتيك ( من لم تزود بالأخبار )
بدلا من تلاوته على وزنه الأصلى : ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ويقول الرافعي في هذا : إنه لم يمنع النبي من إقامة وزن الشعر إلا ما أنزل الله في القرآن من منعه منإنشائه :
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشَّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ) . ( يس : ٦٩ )
فلو أنه أنشد الشعر على وزنه لأدركه الوجد به ولغلبت عليه فطرته القوية فمر في الإنشاد وخرج بذلك لامحالة إلى الاتساع فيه وإلى أن يكون شاعراً ، ولو أنه تكلف الشعر لذهب مذاهب العرب ونافس فيها ثیملجاراهم فيما تُستوقد له الحمية و هذا أمر يدفع بعضه إلى بعض ثم لا يكون في جملته إلا أن ينصرفعن الدعوة ثم يأتى بعد ذلك أصحابه وخلفاؤه فيأخذون فيما أخذ فيمضون على ما كان من أمرهم فيالجاهلية ، ويستطير ذلك في الناس ويستبد بهم ومتى استبد بهم لم تقم للإسلام قائمة .
ولكن عدم إنشاد النبي للشعر لم يكن يعنى عدم تذوقه .. فقد عرف عن النبي حسن تذوقه للشعر وطربهللقصيد الجيد .. وقد عفا عن كعب ابن زهير حينما أنشده لاميته المشهورة .. بانت سعاد .. ورمى عليهبردته استحساناً ، كما كان يطرب إلى الخنساء فى شعرها عن أخيها صخر ويستزيدها قائلا .. هيا ياخناس .. وكان يدعو شاعره حسان بن ثابت ليرد على قصائد الوفود بالشعر .
إنما مُنع الرسول عن صنعة الشعر لا عن تذوقه . صيانة لشخصه الكريم من التقليد فقد أراده الله أنيكون فريداً متفرداً في عصره لا يجري لسانه بتكلف ولا يصطنع الكلام اصطناعاً .. وطهر قلبه ليكونوعاء لكلماته الإلهية .
وإن الناقد الأديب الذواقة إذا استمع إلى الحديث النبوى وإلى القرآن لَيُدرك بذوقه أن كلاً منهما يصدرمن نبع مختلف وأنه لا يمكن أن يكون قائل الحديث هو مؤلف القرآن …
وفي ذلك يقول العارف بالله عبد العزيز الدباغ في الإبريز :
كل من استمع إلى القرآن وأجرى معانيه على قلبه علم علماً ضرورياً أنه كلام الرب فالعظمة التي فيهوالسطوة التي عليه ليست إلا عظمة الربوبية وسطوة الألوهية : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ( العلق : ١ )
هنا يتبادر إلى القلب .. أن المتكلم ذاتُ عُليا لها سطوة . من العظمة
والسطوة والجلال في الكلمات :
اقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم . عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْيَعْلَمْ .
( العلق : ١ - ٥ )
وذلك الإيقاع الهائل في العبارات :
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ( هود ٤٤ ) .
من هو الذى يلقي بهذه الأوامر الكونية فتستجيب له الأفلاك وتصدع بأمره السموات والأرض ..
إن كل كلمة هي أمر جلل .
وسطوة هذه الكلمات لا يمكن أن تكون إلا عن سطوة صاحبها وما أبعد الفارق بين هذا الأسلوب القرآنىوبين أسلوب الحديث النبوي . وهناك أكثر من وجه من وجوه الإعجاز يتميز بها القرآن عن الحديث
وقد أفردت لذلك باباً مطولا في كتابي ( حوار مع صديق الملحد ) في الفصل ..( لماذا لا يكون القرآن منتأليف محمد ) .. ولمن يريد مزيداً من التفاصيل في الموضوع أن يعود إلى الكتاب
ويبدو أن وقع القرآن على القلوب والآذان كان في زمنه أمراً مختلفاً عما هو في زماننا فقد كان الأعرابيإذا استمع إلى القرآن وقرعت العبارات القرآنية قلبه أناخ راحلته وشهد أن لا إله إلا الله و أسلم بجميعجوارحه ..
كانت معجزة اللغة القرآنية بالنسبة لهذه السليقة العربية النقية أمراً جليا لا جدل فيه . .
ولكننا اليوم فقدنا السليقة العربية والفطرة اللغوية الأولى وصدأت الآذان والقلوب وأصبح الأمر فى حاجةإلى الاستدلال والبرهان
وهذا ما فعله تقادم العهد وألف وأربعمائة سنة وبُعدنا عن ينابيعنا اللغوية وجهلنا بأصولها
*******
بعد فتح مكة يخرج أبو بكر يحج في ثلثمائة مسلم ويقف علي بن أبي طالب في الناس وهم يؤدون مناسكالحج بمنى وقد اختلط المشركون بالمسلمين يتلو عليهم سورة التوبة وفى هذه السورة نزلت أول آية صريحةتمنع المشركين من دخول المسجد الحرام :
يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَيُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ( التوبة : ۲۸ ) .
وقد صدق الله وعده فأغناهم الله من فضله ، وجعل من بلاد الحجاز أغنى دول العالم .
وقف علي بن أبي طالب في ذلك اليوم يصيح بالناس :
( أيها الناس إنه لا يدخل الجنة كافر ولا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عندرسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته ).
ومن يومئذ لم يحج مشرك ولم يطف بالبيت عريان (كان المشركون يطوفون من قبل عرايا ) ومن ذلك اليوموضع الأساس الأول للدولة الإسلاميه . وكان في علم الله أن هذه الدولة الوليدة ستواجه أعتى دول الشركوالوثنية ( الفرس والروم ) وستحاصرها الأخطار من كل جانب وسيفرض عليها القتال فرضاً فأمرالمسلمين بالجهاد :
وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ . ( التوبة : ٣٦ )
وفي الخامس والعشرين من ذي القعدة من السنة العاشرة للهجرة يسير النبي إلى مكة في حجة الوداععلى رأس مائة ألف تتجاوب الصحارى والوديان والجبال بهتافهم . لبيك اللهم لبيك . . لبيك لا شريك لكلبيك . . يهدرون كالموج .. ويقف النبي يخطب الناس بعرفة ومن خلفه ربيعة بن أمية يردد ما يقوله علىالناس بصوته الجهوري :
( أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً ) .
أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام .
وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت
وإن كل ربا موضوع وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله .
وإن كل دم في الجاهلية موضوع .
وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ،
وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم .
فاعقلوا أيها الناس قولي وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً .. كتاب الله وسنة رسوله .
أيها الناس اسمعوا قولى واعقلوه .. إن كل مسلم أخ للمسلم ولا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عنطيب نفس منه فلا تظلموا أنفسكم اللهم هل بلغت
( فتتجاوب الأصداء من كل صوت ) .. نعم
فيقول . . اللهم فاشهد .
ويتلو الآية : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ ديناً . ( المائدة : ٣ )
فيبكي أبو بكر وقد شعر أن أجل النبي قد اقترب .
و يعود النبي إلى المدينة ويبدأ بتجهيز جيش إلى الشام يضع على رأسه أسامة بن زيد . . فيقعده المرض.
وتزداد عليه الحمى فيطلب من زوجاته أن يصببن عليه مياه سبع قرب من سبعة آبار ثم يخرج إلى المسجدوقد عصب رأسه ويجلس على المنبر فيستغفر لقتلى أحد ويكثر الصلاة عليهم ثم يقول :
أيها الناس أنفذوا بعث أسامة فلعمرى إنه لخليق بالإمارة كما كان أبوه خليقاً بها من قبل .. ( وقد كانهناك همس بين المسلمين بأن أسامة أصغر سناً من أن يختار لمثل هذا الجيش ) .
ويصمت هنيهة يلتقط أنفاسه ثم يقول :
( إن عبداً من عباد الله خيره الله بين الدنيا والآخرة وبين ما عنده فاختار ما عند الله ) .
وسكت والناس على رءوسهم الطير لا يفهمون ولكن أبا بكر يبكي لإدراكه معنى العبارة .. وإن النبي يريدبذلك نفسه وإن الله خيّره بين الخلود في الدنيا والآخرة وبين الضيافة عنده فاختار مقام العندية مع ربه .
وينظر النبي إلى أبي بكر فى حنان ويأمر بأن تغلق كل الأبواب المؤدية إلى المسجد ما عدا باب أبي بكرويقول :
إني لا أعلم أحداً كان أفضل فى الصحبة منه ، وإني لو كنت متخذاً من العباد خليلا لاتخذت أبا بكرخليلا .. ولكنها صحبة الإيمان والإخاء حتى يجمع الله بيننا عنده
ثم يعود فيتلفت إلى أصحابه ليقول :
يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيراً فإنهم كانوا عيبتي ( خاصتي وموضع سري ) فأحسنواإلى محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم .
وتشتد عليه الحمى فليزم بيته ويأمر أبا بكر بالصلاة بالناس .. ويُغشى عليه من الحمى ثم يفيق وهويعاني أشد الكرب . . ويبلل يده من إناء به ماء بارد إلى جواره ويمسح على وجهه وفاطمة إلى جوارهتهمس .. واكرب أبتاه .. فيقول لها حانياً .. لا كرب على أبيك بعد اليوم .
وكان ببيته سبعة دنانير قبل مرضه فيأمر عائشة بإنفاقها صدقة وهو يقول :
ما ظن محمد بربه لو لقي الله وعنده هذه الدنانير .. نحن معاشر الأنبياء لا نورث . . ما تركناه صدقة
وفي الصباح يتحامل على نفسه ويقوم إلى المسجد عاصباً رأسه مستنداً إلى ذراعي علي بن أبي طالبو الفضل بن عباس فيدخل المسجد والناس يُصلون فيجلس إلى يمين أبي بكر ويصلي قاعداً حتى إذافرغ من صلاته استدار إلى الناس ليقول :
أيها الناس من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليقتص مني .. ومن كان له عندي درهم فهذا مالي فليأخذحقه منه .
ويلتقط أنفاسه ثم يعود فيقول :
أيها الناس .. سُعرت النار .. وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ( يصف بذلك ما ينتظر الإسلام من بعده .
ثم يعاوده الضعف الشديد .
ثم نراه في لحظاته الأخيرة وقد وضع رأسه في حِجر عائشة وهو يغمغم . . اللهم أعنى على سكرات الموت.
وتروى عائشة الفصل الأخير من حياته :
وجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثقل في حجري فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد شخص وهويقول :
( بل الرفيق الأعلى من الجنة ) .
لقد اختار الرفقة مع الله على الحياة المخلدة في الدنيا والآخرة .
و يموت محمد
و يُقبل أبو بكر مسرعاً إلى بيت عائشة ويستأذن للدخول . . فتقول له عائشة . . لا حاجة لأحد اليوم بإذن . فيدخل ليجد النبي مسجى عليه بُرد مخطط فيقبل عليه حتى يكشف وجهه ثم يلثم وجهه قائلا . .ما أطيبكحياً وميتاً .. ثم يعيد الرأس إلى الوسادة ويرد البرد على وجهه ويخرج إلى الناس الذين أنكروا موته فىالخارج و على رأسهم عُمر يهدد كل من يقول بموت النبي
ويقف أبو بكر فيهم ليقول بصوت ثابت :
أيها الناس .. من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ...
ثم يتلو قوله تعالى :
ومَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَئِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِفَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ )
(آل عمران : ١٤٤)
ولما يسمع عمر أبا بكر يتلو الآية يخر إلى الأرض ما تحمله رجلاه وقد أيقن أن رسول الله قد مات
ويقف أبو بكر بعد أن تمت له البيعة ليقول تلك الكلمة العملاقة :
( أما بعد أيها الناس فقد وُليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فاعينوني وإن أسأت فقوموني .. الصدقأمانة ،والكذب خيانة ،والضعيف فيكم قوى عندي حتى أعيد له حقه إن شاء الله ، والقوى فيكم ضعيفحتى آخذ منه الحق إن شاء الله .. لا يدع قوم الجهاد فى سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل ولا تشيعالفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء .. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله ،فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعةلي عليكم قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله ) ..
وما أبعد الفارق بين هذا الكلام وبين تلك الخطبة الغاشمة التي يلقيها بعد ذلك الخليفة المنصور العباسيبعد أقل من قرنين من الزمان في نفس الموقف :
أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه ، وحارسه على ماله ، أعمل فيه بمشيئته وقد جعلني الله عليهقفلاً .. إن شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم ، وإن شاء أن يقفلني أقفلني .
هذا حاكم مستبد جاء يحكم الناس بالحكم المطلق مستمداً سلطته من الحق المقدس كملوك العصورالمظلمة فى أوربا الذين كانوا يستمدون سلطاتهم المطلقة من كرسي البابوية .. وطاغية يزور على الناسجاهلية جديدة ومادية غاشمة باسم الدين والدين منه براء .
وذاك رجل آخر يخرج النور من شفتيه .
رجل شرب من نبع النبوة وخرج من مصنعها العظيم .
وتلك هي اللمسة السحرية وما تفعله في الرجال ..
وذلك هو الإشعاع الروحى وما يفعله من نفخ الحياة في الموتى و هو ما لا طاقة لعظيم من عظماء الدنيا أنيعمله ، بل هو النبي وحده المؤيد بقوى الغيب المحفوف بالعناية ، المحفوظ بالعصمة والتمكين .
أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وخاتم أنبيائه وحسبي من الحياة أملاً أن أتبع سُنته،وأدعو دعوته ،وأُبعث في لوائه ،وأُحشر على قدمه .
وصلوات الله وسلامه على مولانا وسيدنا محمد إلى آخر الدهر .
تعليقات
إرسال تعليق