الشيطان يحكم _ الدكتور مصطفى محمود

اقتباسات و مسارات من فلسفة مصطفى محمود و تجليات الحقيقة في كتاباته و أفكاره في الحياة و الوجود ، رحلة الإكتشاف الروحي و تفكيره في مدونة حياتنا _ قصص الأنبياء من القرآن الكريم و السنة النبوية و هم حسب الترتيب الزمني : آدم ، شيث ، ادريس ، نوح ، هود ، صالح ، ابراهيم ، لوط ، اسماعيل ، اسحاق ، يعقوب ، يوسف ، أيوب ، ذو الكفل ، يونس ، شعيب ، أنبياء أهل القرية ، موسى ، هارون ، يوشع بن نون ، داوود ، سليمان ، الياس ، اليسع ، عزير ، زكريا ، يحيى ، عيسى ، محمد . عليهم و على نبينا الصلاة و السلام
دعوة الإسلام هي القمة في البساطة . . إنها الفطرة ذاتها بلا تكلف ... لم يأخذ محمد عليه الصلاةوالسلام الناس إلى متاهات لاهوتية ولم يكلفهم انقلاباً في نظام الحكم في قريش وإنما أراد بهم إنيطّهروا عقولهم من رجس الخضوع للأوثان وأن ينّزهوا ربهم عن هذه الشركة المخجلة مع أصنام لا تسمعولا ترى وهذه الشفاعة الوهمية لحجارة شائهة لا تملك لنفسها شيئاً .
كانت دعوته في صميمها حرية وتحررا فلا تلك الحجارة ولا الملائكة ولا الجن ولا المردة ولا النجوم بدافعةعن الإنسان ضرا أو جالبة له نفعاً فعليه أن يتحرر منها جميعاً ويطرحها خلفه ، لا يضرب عندها قداحاً ولايذبح قرباناً ولا يدعو ولا يعتذر ولا يتوسل ولا يعبد إلا إلها واحداً ذلك الذي ليس كمثله شيء . وكانت دعوتهعلمية ففكرة الإله الواحد هي غاية ما يصل إليه التأمل الحق في ظواهر الوجود ، فكل الأسباب تنتهى فيالنهاية إلى سبب واحد هو محركها جميعا ..
وكانت دعوته خُلقية تهدف إلى الخير والعدل والمحبة وتدعو إلى نجدة الفقير والمريض واليتيم والأرملة .. وكانت المرأة في أوربا في ذلك الوقت يضع راجلها على بطنها حزاماً حديديا له ترباس هو حزام العفةليضمن وفاءها وكأنها قطعة أثاث ..
وكانت فى الجاهلية تدفن فى التراب طفلة وتباع كالمتاع كبيرة ، وكانت في الهند تحرق على جثة زوجهاالميت ، فجعل لها الإسلام حقوقاً وواجبات ، واحترمها طفلة وأماً وزوجة وحبيبة وشريكة عمر، ولم ينقضمحمد عليه الصلاة والسلام ما سبقه من أديان إبراهيم وموسى وعيسى بل أيدها وثبتها وباركها .
كان محمد يدعو إلى خير الجميع ولكنه اصطدم بمقاومة هائلة من الجميع وحينما نزلت آية الدعوة : وَأَنْذِرْعَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ . وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) [ ٢١٤ - الشعراء ]
صعد محمد الصفا ونادى :
يا معشر قريش !
قالت قريش . . محمد على الصفا يهتف
وأقبلوا عليه يسألونه ما به .
قال .. أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدقون .
قالوا .. نعم أنت عندنا خير منهم وما جربنا عليك كذبا قط .
قال . . فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد يا بني عبد المطلب ،
يا بني عبد مناف يابنى زهرة يابنى تيم ، يابني مخزوم ، يابني أسد الله أمرني أن أنذر عشيرتى الأقربين.. وإني لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله .
فنهض أبو لهب - وكان رجلاً سميناً سريع الانفعال فصاح : تبا لك سائر هذا اليوم . . ألهذا جمعتنا ؟!
وطالبوه بالمعجزات وبأن يفجر لهم . من الأرض ينبوعاً ويجعل لهم . جنات و أنهاراً ، ويحيل الصفا والمروةذهباً ، أو يحيى الموتى ، أو يسقط السماء عليهم كسفا ورجوماً ، أو ينزل عليم كتاباً فى رق مسطور منالسماء يشاهدونه بأعينهم ، أو يجلب لهم الله وملائكته . ونزل القرآن :
قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولا : [ الإسراء - ٩٣ ]
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَالسُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) [ الأعراف : ۱۸۸ ]
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكُ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَى ) [ الأنعام- ٥٠ ]
فاتهموه بالسحر والجنون والكهانة وأغروا به شعراءهم يهجونه ويقارعونه ودفعوا إليه السفهاء يرجمون بيته.
وكان ما يلقى أتباعه من الاضطهاد أضعاف ما يلقاه .
وتآمروا عليه فأعلن عمه أبو طالب حمايته ، ودعا أبو طالب بني هاشم وبني المطلب إلى حماية محمد منقريش فاستجابوا له جميعاً إلا أبا لهب فإنه لج فى عداوته وانضم إلى صفوف الخصوم .
وبدأت قصة من قصص الثبات والصمود والكفاح السلبي أمام التعذيب والاضطهاد .
ويضعف أبو طالب فيقول لمحمد :
أبق عليَّ وعلى نفسك ولا تحّملني من الأمر مالا أطيق .
فيجاوب محمد في ثبات عجيب :
" يا عم والله لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في يسارى على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتىيظهره الله أو أهلك دونه "
ويتأثر العم لهذا الثبات الفريد ويُقبل على ابن أخيه مطمئناً :
اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء تكرهه أبداً .
وما تكاد تمضى أيام حتى يعود رهط قريش إلى محمد بوسيلة أخرى ليثنوه عن دعوته .. هذه المرةيفَّوضون عتبة بن ربيعة ليعرض على محمد عرضاً مغرياً ..
وهذا عتبة يقول لمحمد :
يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من المكان في النسب وقد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهموسَّفهت آلهتهم فاسمع مني أعرض عليك أموراً لعلك تقبل بعضها .. إن كنت إنما تريد بهذا الأمر مالاجمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت تريد تشريفاً سودناك علينا فلا نقطع أمراً دونك ،إن كنت تريد ملكاً مَّلكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً ( شيئاً من الجن ) تراه لا تستطيع رده عننفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ .
فلا يكاد يفرغ من قوله حتى يكتفى محمد بأن يتلو سورة السجدة ..
إنهم ينطحون الصخر وسوف تدمى رءوسهم ولن يتحرك الصخر من مكانه.
ويهاجر بعض المسلمين ممن زادت عليهم وطأة الاضطهاد إلى الحبشة ويبقى محمد ثابتاً مع القلة القليلةأمام الطوفان .
وتتشاور قريش ويقر قرارها على سياسة جديدة لضرب محمد وأصحابه هي سياسة التجويع والمقاطعةوالحصار .. ويكتبون كتاباً بالمقاطعة يعلقونه في الكعبة ، إنه لا بيع بينهم ولا شراء ولا تزاوج ولا معاملة معبني هاشم و بني المطلب وكل من يتبع محمداً أو يحميه .
واحتمى محمد وأهله وأصحابه في شعبة من شعاب الجبل بظاهر مكة يعانون الحصار والحرمان والجوعلا يصل إليهم الطعام إلا تهريباً ، ويحكي أحد الصحابة عن هذه الفترة أنه قد بلغ به الجوع ذات يوم أنعثرت يده بشيء رطب فألقى به في فمه وازدرده دون أن ينظر إليه .. ولا يزال إلى اليوم لا يدرى ماذا كانذلك الشيء .
ودامت المقاطعة ثلاث سنوات لم يكن يؤذن لمحمد فيها بالاختلاط بالناس إلا في الأشهر الحرم .
وتحكى السيرة أنه جاءه في تلك الأيام وفد من النصارى فجلسوا إليه وسألوه واستمعوا له فأسلمواوصدقوه فاغتاظ لذلك قريش وسبوهم قائلين : "خَيّبكم الله من ركب بعثكم أهل دينكم لتأتوهم بخبر الرجلفلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه " .
وقد يسأل سائل عن السر فى هذا اللدد والخصام والعناد والعداوة من قريش لمحمد وهو الذى لم يدعهمإلا إلى خير ولم ينازع أحداً في سيادته ، بل كان يقول ، "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذافقهوا " ….
وحينما دخل مكة فاتحاً بعد ذلك بسنوات لم ينزع أبا سفيان من مكان الشرف في قومه بل ثبته فى مكانتهوجعل للاجئ إلى بيت أبي سفيان كاللاجئ إلى الحرم .
لِمَ إذن كل هذه الخصومة واللدد؟هي الكبرياء لمجرد الكبرياء .. وهذا أبو جهل يحكى عن نفسه :
تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذاتحاذينا على الركب وكنا كفرسى رهان
قالوا منا نبي يأتيه الوحى من السماء .. فمتى ندرك مثل هذه .. والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه .
إنها لم تعد مسألة حق وباطل وإنما أصبحت مسألة . . أنا . . وهو . . مسألة أبي جهل وأبى لهب .. ولماذا لايكون أبو جهل هو النبي . . ثم إن دين محمد كان سيكلفهم من أمرهم رهقاً . فإن الواحد منهم ليزنيويسرق ويقتل ثم يقدم رشوة من القرابين إلى الأصنام فينتهى كل شيء وينام قرير العين . . أما محمدفيهددهم بأنهم سيبعثون بعد موت ويقفون بين يدى عذاب شديد وحساب لا تضل فيه شاردة ولا واردة .
ويموت أبو طالب وتموت خديجة فى سنة واحدة وينهد الركن الشديد الذي يحتمى به محمد ويهون أمرهعلى الناس حتى ليحثو السفهاء على رأسه التراب سخرية وتنكيلا . . فتغسل فاطمة عن رأسه التراب وهيتبكي . ويخرج محمد إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف فيغرون به سفهاءهم ويسبونه ويرضخونأقدامه بالحجارة ، ويفر منهم لاجئاً إلى حائط العتبة فيحتمى به ويتهاوى متعباً رافعاً بصره إلى السماءيتضرع :
" اللهم إليك أشكو ضعف قوتى وقلة حيلتي وهوانى على الناس يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفينوأنت ربى إلى من تكلني .. إلى غريب يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمرى .. إن لم يكن بك غضب على فلاأبالى ولكن عافيتك أوسع لى أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرةمن أن تنزل بى غضبك أو تحل على سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك " .
ويخرج إليه العبد عداس بقطف عنب فيمد محمد يده قائلا باسم الله .. ثم يأكل . . . فيقول عداس . هذاكلام لا يقوله أهل هذه البلاد فيسأله محمد عن بلده ودينه . . فيقول نصراني من نينوى .. فيقول النبي : منبلد الصالح يونس بن متى .. فيسأله عداس متعجباً ؟! وما يدريك ما يونس بن متى .. فيقول محمد ذاكأخي كان نبيا وأنا نبي .. فيكب عداس على محمد يقبل رأسه ويديه وقدميه . . و عتبة بالباب يعجب منهذا الذي فعله العبد .
ويعرض محمد نفسه على قبائل العرب ، فيأتى كندة في منازلها ، ويأتى كلباً فى منازلها ، ويأتى بنيحنيفة وبني عامر وبني صعصعة فلا يسمع له أحد ويردونه ردا قبيحاً :
ويشترط بنو عامر أن يخلفوه على الأمر من بعده فلما يجيبهم .. أن الأمر الله يضعه حيث يشاء . . ينفضواعنه .
في هذا الظلام المتراكم يأتيه الله ببشارة الإسراء والمعراج ويستضيفه في السموات العلى . . فلما يقوللقريش إنه أسرى به إلى بيت المقدس في ليلة يتضاحكون ساخرين ويذهب أحدهم إلى أبى بكر ليقول له: إن صاحبك يزعم أنه ذهب إلى بيت المقدس وعاد في ليلة .. فيقول الصديق . . إن كان قالها فقد صدقفإنه ليخبرني أن القرآن ينزل عليه من سبع سموات في ساعة زمان فأصدقه ، فهذا أبعد مما تعجبون منه.
ويصف محمد الطريق إلى بيت المقدس ، ويصف المسجد الأقصى ، ويصف ما رأى من عير في الطريقفلا يخالف الواقع في شيء .
وتأتى البشارة الثانية بإسلام نفر من الخزرج من أهل المدينة في بيعة العقبة ومعاهدتهم محمداً علىمناصرته .
ويقول العباس بن عبادة الذي حضر هذه البيعة للقوم محذرا :
يا معشر الخزرج أتعلمون علام تبايعون هذا الرجل ؟ .. إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود منالناس فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن ، فدعوه فهو واللهإن فعلتم خزي الدنيا والآخرة .. وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتلالأشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة .
فيجيب القوم : إنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف .
ويمدون الأيدى ويتبايعون : بايعنا على السمع والطاعة فى عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأن نقولالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم .
وكان ذلك في جوف الليل فى شعب من شعاب العقبة والناس نيام لا يدرون ماذا يخبئ لهم المستقبل .
ويشتد أزر الأنصار فى المدينة ويهاجر إليهم المسلمون تباعاً . . ثم يهاجر محمد ذات ليلة مخالساً العيونالتي تراقبه وقد ترك علي بن أبي طالب مسجى في برده الحضرمي الأخضر واصطحب أبا بكر إلىمخبأ غار ثور ثم إلى المدينة من طريق غير مطروق .
ويروى القرآن : إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَافَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُعَزِيزٌ حَكِيمٌ [ التوبة : ٤٠ ]
ما هي تلك الجنود غير المرئية التي أيد الله بها نبيه هل هي العناكب التي نسجت خيوطها على فم الغارأو الحمام الذي عشش على مدخله ، أو الملائكة التي ثبتت قلب محمد وصاحبه ، أو أشياء أخرى مما لانعرف ؟! تلك من أنباء الغيب ومن أسرار النبوة التي يتميز بها جهاد الأنبياء عن جهاد العظماء من الناس.
وإننا لنرى تلك العُصبة من الأنصار التي بايعت النبي عند العقبة هي التي تشد الآن على يدي رسولهاتؤكد له الولاء قبل وثبة بدر .... ( والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك وماتخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصُبرُ في الحرب صُدقُ في اللقاء لعل الله يريكمنا ما تقر به عينك .. فسر بنا على بركة الله ) .
ثم يشتعل القتال على ما وصفنا بين محمد وقريش ، وبين محمد واليهود ، وبين محمد وسائر العرب ،ويؤرخ التاريخ لغزوات بدر وأحد والخندق وبني النضير وبني قريظة وبني المصطلق .
ويحفر الذين حاربوا أسماءهم في ذاكرة الزمن ، ونتعرف على الذين جرحوا والذين ثبتوا والذين قتلواوالذين تخلفوا والذين قعدوا كل منهم نراه مسجلا بالاسم والنسب والقبيلة وكيف ومتى وأين سقط ..
لم يمح الزمن شيئاً
و تتواتر الكتب ليؤيد بعضها بعضاً وليرسم صورة مجسمة حية لتلك المسيرة العظيمة التي ساندهاالرجال صفاً واحداً وراء رجل يتقدم بأمر السماء … و بين وقت وآخر كانت المسيرة تتوقف ليلتقط الزمنأنفاسه ….. و من تلك الوقفات المثيرة للتأمل كانت وقفة الحديبية وقد خرج محمد إلى مكة في ألفوأربعمائة محرمين للعمرة لا يحملون سلاحاً إلا السيوف في غمدها يسوقون الهدي أمامهم سبعين ناقةلينحروها عند الكعبة لا يقصدون قتالا ، حتى إذا كان بعسفان صادف رجلا من بني كعب فقال له :
إن قريشاً سمعت بمسيرك فخرجوا وقد لبسوا جلود النمور ونزلوا بذي طوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهمأبداً ، وهذا خالد بن الوليد ( وكان في صف الكفار فى ذلك الوقت ) فى خيلهم قد بلغوا كراع الغميم
قال محمد : يا ويح قريش .. لقد أهلكتهم الحرب .. ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب فإن همأصابونى كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين . . فما تظن بي قريش ؟! فوالله لا أزال أجاهد على الذي بُعثت به حتى يُظهره الله أو تُقطع تلك الرقبة .
ولبث لحظة مفكراً :
إنه لم يخرج إلى مكة غازياً ، بل محرماً وهو لم يتخذ للحرب عدتها .
وبلغ المسلمون الحديبية فبركت القصواء ( ناقة النبي ) وقال الرسول إنما حبسها حابس الفعل عن مكة .. والله ما تدعوني قريش إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها .
وقد انعقد عزمه على ألا يحارب احتراماً للشهر الحرام أن يسفك فيه دم .
ودارت المفاوضات وطالت محادثات الصلح والمسلمون من حول النبي يرونه قد أسرف في التنازلات ،فيقول عمر لأبي بكر وقد ضاق بالأمر ذرعاً :
أو ليس هو برسول الله ؟ . .
أو لسنا بالمسلمين ؟ . .
فعلام نعطى الدنية في ديننا ؟ . .
وأبو بكر يشتد على عمر لاعتراضه : يا عمر الزم غرزك ( أى الزم مكانك ) فإني أشهد أنه رسول الله ..
والنبي عليه الصلاة والسلام يعلم من أمر اعتراض المسلمين ما يعلم فيقول في صبر وحلم :
أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني .
ثم يبدأ حوار مثير عند كتابة المعاهدة فيدعو النبي علي بن أبي طالب ويقول له اكتب .. بسم الله الرحمنالرحيم .
فيعترض مندوب قريش هاتفاً .. أمسك لا نعرف ذلك الرحمن الرحيم بل اكتب باسمك اللهم .
فيقول الرسول . . اكتب باسمك اللهم هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو .
فيقول سهيل أمسك .. لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك .
فيقول رسول الله لعلي .. أكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله .
وتنص المعاهدة على هدنة ثلاث سنوات وعلى أن من أتى محمداً من قريش مسلماً بغير إذن وليه يردهعليهم ، ومن جاء قريشاً من رجال محمد مرتداً لم يردوه …. كما تنص على حق المسلمين في زيارة الكعبةللعمرة والحج .
ورأى المسلمون في تلك الشروط إسرافاً في التنازل لقريش بدون مبرر .
ولكن المستقبل ما لبث أن كشف للمسلمين عن عمق هذه السياسة التي اتبعها النبي .. فقد خرجالمسلمون الجدد من قريش مهاجرين إلى المدينة فردهم النبي وفاء بالمعاهدة .. فرأوا أن عودتهم إلىقريش ستكون هلاكا لهم .. فألفوا عصبة من سبعين رجلا بقيادة أبي بصير وعسكروا في [ العيص ] علىساحل البحر الأحمر يقطعون قوافل قريش إلى الشام .. مما جعل قريشاً تتقدم بنفسها وتطلب من النبيقبولهم في المدينة وتطلب منه إلغاء بند المعاهدة الذى ينص على رد المسلمين الفارين من قريش .
ثم إن هذه المعاهدة كانت أول اعتراف بدولة المسلمين و بمحمد على رأسها زعيماً وليس كاهناً ولا مجنوناًولا قاطع طريق .. كما أنها أعطت المسلمين الحق في الحج والعمرة … وأهم من ذلك أنها أعطتهم الأمانمن جهة الجنوب فاستطاعوا أن يتفرغوا لتصفية اليهود أعدائهم في الشمال ،ثم لإرهاب أكبر الأعداء … الروم والفرس بغزوة مؤتة التي ذكرناها ، ثم بغزوة تبوك التي خرج فيها النبي في أشهر القيظ في جيشجرار يتقدمه عشرة آلاف فارس بلغ به تبوك .. فانسحبت جيوش الروم مؤثرة السلامة .. وأقبل عاملهم علىأيله الأمير يوحنا بن رؤبة وعلى صدره صليب من ذهب فقدم الهدايا للنبي ودفع الجزية وكتب له الرسولكتاب أمان :
بسم الله الرحمن الرحيم هذه أمنة من الله و محمد النبي رسول الله ليوحنا ابن رؤبة وأهل ايله سفنهموسيارتهم في البر والبحر لهم ذمة الله و محمد ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر .
وعاد الجيش دون صدام مع الروم .. ولكنه ألقى للمسلمين المهابة في قلوب سكان المنطقة وحكامها .
وهذا بعض ما أثمرته سياسة النبي الحكيمة في صلح الحديبية . وإنا لنرى النبي بعد ذلك يتفرغ لبعثالرسائل إلى الملوك والزعماء . وها هو ذا يكتب إلى هرقل :
بسم الله الرحمن الرحيم …. من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم . . سلام على من اتبع الهدى .. أما بعد .. فإني أدعوك بدعاية الإسلام .. أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإنما عليك إثمكوإثم رعيتك
وندهش كيف يخاطب محمد هرقلا بهذه الثقة والصلابة . . وهو من هو في ملكه وسلطانه .. ولكنها بصيرةالنبي التي رأت في هذا الملك العظيم نسيجاً أوهى من نسيج العنكبوت ، فهى عظمة بلا قيم ، وقوة ماديةبلا روح تحفظها ..
ألم يسقط ملك الروم بعد ذلك بسنوات أمام سيف خالد بن الوليد في معركة اليرموك ، ويتبدد جيش منمليون مقاتل في أربع وعشرين ساعة وكأنه هباء في الهواء .
سبحان الله . .
أهو تخطيط أبراهام لنكولن أم مهارة جيفارا .
أم نحن أمام النبوة وجهاً لوجه حيث تعمل قوى الغيب مع قوى البشر وحيث يشع الروح العظيم المسجىفى المدينة على قلوب هؤلاء البدو فيدفعهم أمامه كالإعصار ، ويبلغ بهم القيروان والأندلس وشواطئالأطلسي غرباً و شواطئ الفارسي شرقاً ومضيق الدردنيل شمالا في لازمان … لا يحملون رسالة دماركما كان يفعل غزاة المغول والتتار .. وإنما يحملون مصاحف وحضارة ونوراً وحباً وخيراً للجميع .
وكذب من زعم أن الإسلام دخل القلوب بالسيوف .. فماذا فعلت سيوف الطليان وقنابلهم وطائراتهم فيليبيا .. إنها لم تُخرج مسلماً واحداً عن دينه ولا استطاعت قنابل فرنسا وطائراتها وجيوشها أن تُدخل ديناًفي تونس أو المغرب أو الجزائر ، فما زالت العروبة والإسلام هناك في كل مكان حيث تركها عقبة بن نافعمنذ أكثر من ألف عام .
إنما هنا النبوة في جانب … وفي الجانب الآخر العظمة الدنيوية بحدودها تبنى أمجاداً من زبد البحر . . ثم يذهب الزبد جفاء . . أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض .
وتنقض قريش عهد الحديبية وتقتل نفرًا من خزاعة كانوا قد أسلموا وذلك بتحريض من عكرمة بن أبيجهل .. ويذهب عمر و بن سالم الخزاعي إلى المدينة يستنصر النبي ويقص عليه ما حدث .. ولا يرى النبيردا على هذا الغدر إلا فتح مكة .
ويخشى أبو سفيان عاقبة هذا النقض لعهد الحديبية فيذهب إلى المدينة ويحاول أن يلقى النبى ويدخلعلى ابنته ( أم حبيبة ) .. وكانت قد عادت من هجرة الحبشة ودخلت فى حريم النبي زوجة ، فتطوي أمحبيبة الفراش من أبيها حتى لا يجلس عليه فلما يسألها . . أطوته رغبة بأبيها عن الفراش أم رغبة بالفراشعن أبيها . . تجاوبه بل هو فراش الرسول عليه الصلاة والسلام وأنت رجل مشرك نجس فلم أحب أن تجلسعليه . . فيرد أبو سفيان مغضباً والله لقد أصابك يا بنية بعدى شر .
ولا يجد أبو سفيان بين المسلمين من يستمع إليه فيعود إلى مكة وقد خابت سفارته وقد شعر أن محمداً لابدسائر على أعقابه لفتح مكة .
ويجهز النبي جيشاً من عشرة آلاف ويسير حتى يبلغ (مر الظهران) و قريش غارقة فى الجدل ماذا تصنعفي مواجهة محمد .. ويخرج أبو سفيان في حمى العباس بن عبد المطلب حتى يبلغ النبي ( بنيق العقاب )ويعلن إسلامه .
ويزحف الجيش على مكة . . وأبو سفيان يرقب مسيره وهو واقف بمضيق الوادي عند مدخل الجبل إلىمكة ، تمر أمامه كتائب المسلمين آلافاً مؤلفة ، فما يروعه منها إلا الكتيبة الخضراء يحيط بمحمد فيهاالمهاجرون والأنصار في دروع الحديد لا يُرى منهم إلا الحدق … فلما يتبين أمرهم يهمس لصاحبه .. ياعباس والله ما لأحد بهؤلاء طاقة… والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً .. ثم ينطلقإلى قومه يصيح بأعلى صوته يا معشر قريش .. هذا محمد قد جاءكم بما لا قِبل لكم به ، فمن دخل دارأبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ،ومن دخل المسجد فهو آمن .
ويدخل محمد مكة فى الخيل والحديد وقد حنى رأسه على ناقته ونكس بصره تواضعا لربه … يقول لأعداءالأمس الذين رجموه وعذبوه وقتلوا أصحابه :
يا معشر قريش .. ما ترون أني فاعل بكم .
فيجيبون وبهم رجفة :
خيراً .. أخ كريم وابن أخ كريم .
فيقول : اذهبوا فأنتم الطلقاء . .
وهذا هو النبي .
……. يتبع
تعليقات
إرسال تعليق