الشيطان يحكم _ الدكتور مصطفى محمود
قطار اللذة
منذ ألف سنة كان أقصى ما يطمح فيه إنسان قطعة أرض و بضعة رؤوس من الماشية.. كان هذا هوالثري الأمثل في ذلك العصر.. و كان أقصى ما يحلم به ذلك الثري هي عربة مطهمة يجرها حصانليدخل بها مجتمع الوجهاء و أهل الشياكة.
و اليوم نقول عن من يملك العربة و الحصان إنه (( عربجي)) و هو في اعتبارنا من الناس الدون .
أما أهل الشياكة و الوجاهة فقد استبدلوا بالأرض العمارات.. ثم استبدلوا بالعمارات الشركات.. ثماستبدلوا بالشركات مجرد دفتر سندات أو دفتر شيكات بحجم الجيب.. مجرد رأس مال يتوالد من تلقاءذاته بالإسهام في أي مشروع .
و انتهى إسطبل المواشي ليحل محله كراج عربات مرسيدس .. ثم انتهى أمر الكراج و تركه الأغنياءللسوقة و الناس الدون .. و صار الواحد منهم يمتلك طائرة خاصة أو مرسى لليخوت أو باخرة .
و غدا تصبح الطائرات من أملاك الفقراء و يظهر الأغنياء الوجهاء الذين يملكون الصواريخ و السفنالفضائية و الأقمار الصناعية، و تصبح رحلة (( الويك إند)) عشاء ساهرا في المريخ .
الزمن استدار و انتقل الناس من حال إلى حال بسرعة غريبة ، و أحلام زمان أصبحت الآن متاحة للكل .
و الفلفل و الحبهان الذي كانت تحمله السفن من الهند عبر رأس الرجاء الصالح في رحلات مهلكة محفوفةبالأخطار ليوزن بالذهب و يوضع في الخزائن مع المجوهرات و لا يظهر إلا على موائد أصحاب الملايين.. ومثله مناديل الحرير الهندي التي كنا نقرأ عنها في بيوت اللوردات في روايات زولا و بلزاك.. كل هذا نزلليصبح في متناول السوقة .
و الفلفل و الحبان الآن عطارة الفقراء .
و الحرير طرده النيلون و الداكرون و التريلين من السوق فهبط إلى نصف ليرة للمنديل، و أصبح زينةمتاحة للخدم و عاملات (( المحلات)). أي إنسان من مستويات الدخل البسيطة يستطيع الآن أن يحصلعلى كثير من وسائل الترف التي كانت تحلم بها جدتي و جدي و يسيل لها اللعاب .
و مع ذلك فالبؤس موجود و التعاسة مازالت هي القاعدة و الشكوى مستمرة على جميع المستويات.. تشهدبذلك أعمدة الصحف و الأغاني و الكتب و أخبار الإذاعات و وجوه الناس المربدة المتجهمة في الشارع ومشاكساتهم الدائمة و صدورهم الضيقة بكل شيء .
لا شيء مما تصور الإنسان أنه سوف يسعده قد أسعده و هو ما كاد يمتلك ما كان يحلم به حتى زهد فيهو طلب غيره.. و هو دائما متطلع إلى ما في أيدي الآخرين غافل تماما عما في يده.. ينسى زوجته و يرغبفي زوجة جاره مع أن زوجته أحلى و أجمل .. و لكنها الرغبة التي لا تشبع، و التي يتجدد نهمها دائما وتتفتح شهيتها على كل ممنوع و مجهول .
و لهذا أقام بوذا ديانته على قتل الرغبة و الخلاص منها باعتبارها سبب الشقاء، و لا خلاص من الشقاءإلا بالخلاص من الرغبة و قتلها و الوصول إلى حالة من السكينة الداخلية الزاهدة في كل شيء و العازفةعن جميع الرغبات.
و الله يكشف لنا الحقيقة بشكل أعمق في القرآن فيقول إنه خلق الدنيا و لها هذه الطبيعة و الخاصية فهي(( متاع)).
(( إنما هذه الحياة الدنيا متاع)).
و (( المتاع)) هو اللذة المستهلكة التي تنفذ.. من خصائص الدنيا كما أرادها خالقها أن جميع لذاتهامستهلكة تنفذ و تموت لحظة ميلادها.
في كل لذة جرثومة فنائها.. الملل و الضجر و العادة ما تلبث أن تقتلها..
هي الطبيعة التي أرادها الله للدنيا، لأنه أرادها دار انتقال لا دار قرار .. و لهذا جعل كل لذة بلا قرار و لااستقرار .. لأنه لم يرد لهذه اللذات أن تكون لذات حقيقية و إنما أرادها مجرد امتحان لمعادن النفوس .. مجرد إثارة تختبر بها الشهامة و النبل و العفة و صدق الصادقين و إخلاص المخلصين .
و الذي يدرك هذا سوف يستريح تماما و يكف عن هذه الهستيريا التي تخرجه من شهوة لتلقي به فيشهوة، و تقوده من رغبة لتلقي به في أتون رغبة، و تجره من جنون لترمي به في جنون.
سوف يريح و يستريح و يحاول أن يروض نفسه و يستصفي روحه و يطهر قلبه و يعمل للعالم الآخر الذيوعد به الله جميع أنبيائه بأنه سيكون العالم الذي تكون فيه اللذة حقيقة.. و الألم حقيقيا .
و هو لن يندم على ما سوف يفوته من لذات هذه الدنيا، لأنه علم تماما و بالتجربة و الممارسة أنها لذاتخادعة تتفلت من الأصابع كالسراب.. و هو قد قرأ التاريخ و عرف أن مال قارون لا يزيد الآن بالحسابالحالي عن عدة مئات من الجنيهات بالعملة النحاسية.. و هكذا قدرت جميع خزائنه بالاسترليني .. و ماأكثر من يملك مئات الجنيهات الآن و يشكو الفقر، و يلعن اليوم الذي ولد فيه.. مع أنه بحساب التاريخأغنى من قارون.
إنها الخدعة الأزلية..
تحلم بامتلاك الأرض فإذا بالأرض هي التي تمتلكك و هي التي تكرسك لخدمتها..
تتصور أن المال سوف يحررك من الحاجة فإذا بالمال يفتح لك أبواب مطالب أكثر و بالتالي يلقى إلىاحتياج أكثر .. و كلما احرزت مليونا.. احتجت إلى ثلاثة ملايين لحراسة هذا المليون و ضمانه..
و تدور الحلقة المفرغة و لا نهاية. و هذه طبيعة عالمنا الكذاب الذي نُمتحن فيه.
كلنا نعلم هذا.. و مع ذلك لا نتعلم أبدا.
مقال / قطار اللذة
من كتاب / الشيطان يحكم
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله)
تعليقات
إرسال تعليق