الشيطان يحكم _ الدكتور مصطفى محمود

صورة
 قطار اللذة  منذ   ألف   سنة   كان   أقصى   ما   يطمح   فيه   إنسان   قطعة   أرض   و   بضعة   رؤوس   من   الماشية ..  كان   هذا   هو الثري   الأمثل   في   ذلك   العصر ..  و   كان   أقصى   ما   يحلم   به   ذلك   الثري   هي   عربة   مطهمة   يجرها   حصان ليدخل   بها   مجتمع   الوجهاء   و   أهل   الشياكة . و   اليوم   نقول   عن   من   يملك   العربة   و   الحصان   إنه   ((   عربجي))   و   هو   في   اعتبارنا   من   الناس   الدون  . أما   أهل   الشياكة   و   الوجاهة   فقد   استبدلوا   بالأرض   العمارات ..  ثم   استبدلوا   بالعمارات   الشركات ..  ثم استبدلوا   بالشركات   مجرد   دفتر   سندات   أو  ...

السيرة النبوية الشريفة بقلم الدكتور مصطفى محمد _ الجزء 1 _



( كَانَ النَّاسُ أُمَّةٌ وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ) ( البقرة : ۲۱۳ ) .


هكذا بدأت الحال بالناس أمة واحدة على الجهل والمادية والكفر وعبادة اللذة العاجلة ، لا يؤمنون إلا بما يقع فى دائرة حواسهم ، ولا تتجاوز أشواقهم . دائرة المعدة والغرائز ، ثم نزلت الكتب والرسل فتفرق الناس بين مصدق ومكذب ، بين مؤمن وكافر ، واختلفوا شيعاً وطوائف هكذا يروى لنا التاريخ من آدم إلى نوح إلى إبراهيم إلى يعقوب إلى إسحاق إلى إسماعيل إلى موسى وعيسى ومحمد خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام . ثم مرت قرون وقرون بالإسلام ضعف فيها شأن الأديان ، واستدار الزمان كهيئته الأولى يوم خلق الله السموات والأرض ، وعادت الجاهلية تلف الناس في ليل مظلم ، هذه المرة جاهلية أشد كثافة وغلظة من الجاهلية الأولى .. هي جاهلية القرن العشرين المتنكرة في ثوب العلم المادى وغروره .. يتبجح بها ناس مشوا على تراب القمر ، وشيدوا ناطحات السحاب ، وغاصوا إلى قيعان البحر ، وانطلقوا إلى أقاصى الفضاء ، وخضروا الصحاري ، وزرعوا الأجنة في القوارير . . وظنوا أن علومهم من عند أنفسهم ، فأخذهم الكبر والزهو ، وتصوّروا أنه قد حان الوقت ليهزموا الموت ، ويبلغوا الخلود ، ويفرغوا من الأمر كله .

كاد الناس في هذا الزمان يعودون إلى الجاهلية الأولى أمة واحدة على الإنكار و الكفر ، يبتسم الواحد منهم في سخرية إذا رأى من يصوم أو يصلى ويقول في نفسه : هذا العبيط . . لمن يصلى ؟ . ويرى في الإيمان بالغيبيات سذاجة وغفلة ، ويرى الذكاء والفطانة والعلم في رفض هذه الخزعبلات والأساطير . فى هذا العصر ظهر لون جديد من كتب السيرة يحاول فيه الكاتب أن يجرد محمداً عليه الصلاة والسلام من كل ما هو سماوي غيبى ، ويتصوره في غار حراء وقد اختلى بنفسه لا ليناجي ربه وإنما ليتأمل أحوال البروليتاريا في قريش ، ويفكر كيف يستنقذهم من مظالم السادة بشريعة جديدة ، وقد جعل من النبي العظيم شيئاً كجيفارا ، ومن الإسلام شيئاً كثورة اجتماعية ، وظن بهذا أنه كان علمياً في استقصاء حياة محمد . . وأنه باستبعاده حكاية جبريل ونزول القرآن إملاء من عند الله ، وإسراء النبي إلى المسجد الأقصى وعروجه إلى السموات العلا – ظن بهذا أنه خدم العقيدة ، ورفع من رسولها .. وأنه كان يتكلم لغة العصر ، ويخاطب الكافر بلغته . . والحقيقة أنه لم يكن يخاطب الكافر بلغته ، بل كان يصانعه ويداهنه ويتألفه بالكذب ورفع من شأن والتزييف ، وينزل بنبيه إلى درك السياسيين المغامرين، ويجرده من العصمة و القداسة ، وحجته في ذلك ما قال الله لمحمد في القرآن :

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ

وليته أكمل الآية : قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلي ( الكهف : ١١٠ )

فهذه التتمة تنفى المثلية التي تصورها كاتب السيرة ، فمحمد بشر مثلنا وليس بشراً مثلنا . . لأنه يوحى إليه ونحن لا يوحى إلينا بشيء . . وإنما نحن أصحاب اجتهاد على الأكثر .. أكثر ما نحلم به هو انقداح الفكر وفيض الخاطر .

وهذا الفرق الدقيق هو سر النبوة

إن النبي مثلنا وليس مثلنا .

هو في حضرة الملأ الأعلى والملكوت يرى جبريل رؤية عين ، ويسمع منه ، ونحن في الحضرة الأرضية ، وفى الحضيض البشري محجوبون لا حظ لنا فى هذه المرائي العالية .

هو برزخ بين الشهادة والغيب

ونحن على شاطئ الشهادة والمحسوس لا نكاد نطل على البر الآخر إلا في حلم أو شطحة أو كرامة .

وهذا هو الفرق بين النبي والولى والمصلح الاجتماعي .

النبي جليس على المائدة الربانية يتلقى من ربه الكلمة والتشريع والتكليف .. وهو معصوم لا ينطق عن الهوى .

والولى كل حظه لحظة شفافية وإطلالة خاطفة من باب موارب ما يلبث أن يعود فينغلق ، وليس له عصمة ولا تكليف ولا تبليغ .

والمصلح الاجتماعى من أهل الاجتهاد مثله مثلنا ، وحظه حظنا ، يخطئ ويصيب ، ولا عصمة له ،ولا خروج من دائرة المحسوس ، ولا تحليق إلا بالخيال والحدس والتخمين

وأى فرق هائل بين هذه المراتب ؟ .. تكاد كل مرتبة تكون فى فلك .

وأى سقوط بالنبوة إذا نحن جردناها من هذه الصلة الربانية ؟

وماذا يبقى من الدين إذا جردناه من الغيب ؟

إنه التكذيب بعينه وقد أخذ صورة العبارة العلمية الملفوفة ، ألم يصف الله المؤمنين بأنهم : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) (البقرة: ٢)

فجعل شرط الإيمان هو الاعتقاد بالغيب . ( وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بعيداً )( النساء : ١٣٦ ) .

فالإيمان بالملائكة شرط صريح للإيمان بالله . ولكنها مادية العصر تسللت إلى كل شيء حتى إلى فهمنا للنبوة . . وأصبح الكاتب العصرى يتصور أنه يكون أذكى وأفطن إذا تكلم عن محمد عليه الصلاة والسلام كما يتكلم عن أبراهام لنكولن ، فهذا هو الفهم العلمي للأمر . وما هو بالفهم العلمي ولا الموضوعي . فكل نبي مصلح، وليس أى مصلح بنبي مهما بلغت إصلاحاته لأن جوهر النبوة ليس الإصلاح ولا التعمير، ولكن جوهر النبوة هو هذه الصلة الميهمة بالله وبغيبه المُغّيب ، هو هذه الحالة البرزخية بين الطبيعة . وما وراء الطبيعة ، هذه الحالة التى تجعل من النبي مستمعاً من نوع فريد يتلقى الإلهام من آفاق أعلى لا يرقى إليها غيره .

ولهذا يحتاج النبي إلى إعداد روحي يختلف تماماً والإعداد العقلي الذي يحتاج إليه المصلح الاجتماعي .

فإذا كانت عدة المصلح الاجتماعى هى الدراسة والخبرة والعكوف على المراجع وأمهات الكتب المتخصصة ، فإن عدة النبي مختلفة تماماً .. فهو في غير حاجة إلى الدراسة والعكوف على الكتب ، وإنما إلى إرهاف السمع إلى الكون ، وتجريد قلبه من الشواغل ، وتخليص همته من التشتت في توافه الأمور ، والخروج بنفسه من شد وجذب الرغبات والنزوات والشهوات ، وجمع الهمة وتركيزها فى طلب شيء واحد هو حقيقة الحقائق .. الله سبحانه .

ولهذا يخرج إبراهيم إلى الفلوات يتأمل القمر والنجوم ، ويخرج المسيح إلى البرية ، ويصوم موسى أربعين يوماً لميقات ربه ، ويختلى محمد في الغار .

لم يعتزل محمد فى الغار ليقوم بدراسة البروليتاريا في قريش كما زعم أصحابنا .. وإنها لنكتة تدل على مدى ما بلغت عقول الماديين من سطحية وخواء ، فلم يكن فى قريش صناعة ليكون فيها بروليتاريا . . وإنما كان فيها أرقاء .. وكانت تأتى الحروب القبلية فتجعل من السادة رقيقا ومن الرقيق سادة هكذا فجأة دون أى مضمون طبقي في الموضوع . . الغالب يجعل من المغلوب رقيقاً وسبايا حتى تدور عليه الدوائر فتنقلب الأوضاع .

وقد جاء محمد و في المجتمع القرشى رقيق ، وترك محمد الدنيا وفى قريش رقيق . . وكان لمحمد – عليه الصلاة والسلام فى حياته سبي ورقيق من غزواته .. إذن لم يكن هم محمد في الغار وما بعد الغار مسألة السادة والعبيد .. وإنما كان همه الوحيد هو معرفة الإله ثم التعريف به واحدا لا شريك له . ولم تكن معركة الإسلام هى التغيير الطبقى ، وإنما كانت معركته هي الانتقال بالعقول من فكرة تعدد الآلهة إلى فكرة التوحيد ، ومن العبادة الوثنية إلى التجريد . . ولهذا حرص محمد عليه الصلاة والسلام – بعد الإسلام على أن يثبت كل زعيم على زعامته وكل سيد على مكان الشرف في قومه دون تبديل إلا أن يرفض تحطيم الأصنام ، فكان حينئذ مُخلعه من ولايته .

وإنما جاءت الوظائف الاجتماعية للدين بعد ذلك حينما بدأت تقوم دولة جديدة موحدة في حاجة إلى تشريع جديد وقوانين جديدة وعلاقات جديدة ، فنزلت الآيات الخاصة بالعدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة كما شرحنا إسهاب في مكان آخر ؛ وسوف يعود السائل فيسأل :

ولماذا لا يكون محمد عبقريا ملهماً ؟

ولماذا لا نرى فيه مصلحاً من طراز فريد ؟

ولماذا لا يكون السياسي والقائد والزعيم الذي لا يجود بمثله الزمان ؟

وكيف تقنع العقل العلمى البحت بحكاية النبوة هذه ، علما بأن مسألة جبريل ونزول القرآن من السموات مسألة لم يباشرها إلا محمد عليه الصلاة والسلام وحده ، ولا دليل لدينا عليها ، إلا أن نسلم بها تسليماً بلا مناقشة . . وهو أمر لا يرضاه العلم ؟

و ربما أوماً السائلون موافقين . نحن معك أن هدف محمد عليه الصلاة والسلام لم يكن التغيير الطبقي ، ولا كان شاغله في الغار هو مسألة السادة والعبيد ، وسنوافق معك على أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان يتأمل في الحقيقة ، وكان يطلب ما وراء الطبيعة . . وكان يريد الله .. ولكن أو لم يكن هذا هو عينه مطلب الفلاسفة أجمعين من سقراط إلى أفلاطون إلى أرسطو إلى كانت إلى هيجل ؟

لماذا لا تراه واحداً من هؤلاء ، وبعضهم كان أميا مثل سقراط .

لماذا تقول إنه نبي ؟ .

لماذا هذا الإصرار على أنه نبي ؟

أعندك شواهد غير إيمانك يمكن أن تقنعنا عقليا بنبوته ؟

و هي أسئلة مشروعة . . وهى تجرنا كلها جرا إلى موضوع ملامح النبوة في حياة محمد .. وهو موضوع عشش في ذهني طويلا وأنا أطالع كتب السيرة وأطوف بين سطورها متأملا متدبرًا سيرة الإنسان الذي غير الدنيا وعاش ومات كرجل بسيط متواضع .

ولن أحكى عن الخوارق التي ترويها السير عن حياة محمد فالإسلام لا يلجأ إلى الخوارق لإقناع الناس .. ومحمد كان يجاوب كل من يسأله الإتيان بخوارق قائلا : إنما أنا منذر ولست بصانع معجزات .

وخالد بن الوليد حينما أسلم مؤخراً ، وكان فارس قريش وسفاحها أيام الكفر، وقف يقول : الآن استبان لكل ذي عقل أن محمداً ليس بساحر ولا شاعر ، وأن كلامه كلام رب العالمين ، فحق على كل ذي لب أن يتبعه .

كان العقل والمنطق إذن هما وسيلتاه إلى الاقتناع ، وليست المعجزات ولا الخوارق .

وحينما غضب أبو سفيان لمقالة خالد وقال ثائرا : واللات والعزى لو أعلم أن الذى تقول حق لبدأت بقتلك يا خالد قبل محمد .

فأجاب خالد في إصرار : فوالله إنه لحق على رغم من رغم .

فاندفع أبو سفيان نحوه ليقتله ، فحجزه عنه عكرمة بن أبي جهل ، وكان حاضراً ، وقال : مهلا يا أبا سفيان .. أنتم تقتلون خالداً على رأى رآه .. والله لقد خفت ألا يحول الحول حتى يتبعه أهل مكة كلهم .

كان الصراع إذن صراع رأى .. وكانت حجة الإسلام هي العقل والمنطق فى كل الأوقات ، ولم تكن المعجزات ولا الخوارق .

وهذا هو عكرمة بن أبي جهل ، وهو أشد الشباب كفراً وخصومة لمحمد ، بد أن قُتل أبوه بيد المسلمين فى بدر ، يقول في خوف وخشية : والله لقد خفت ألا يحول الحول حتى يتبع أهل مكة محمداً كلهم .

وقد خاف الحجة البينة التي رآها تكتسح الناس اكتساحاً . . ولم يخش من محمد معجزة ولا كرامة .

وإذا كانت هناك معجزة فى الموضوع .. فإنها لم تكن شق بحر ، أو إحياء ميت ، أو شفاء أبرص ، أو إخراج حية من عصا

وإنما كانت المعجزة هي ذات محمد نفسه التي جمعت الكمالات وبلغت في كل كمال ذروته .

كان محمد ذاته كسلوك وخلق وسيرة هو المعجزة التي تسعى على الأرض .

وإن تبلغ ذاتك الكمال في صفة واحدة ، فتبرز فيها وتتفوق على أقرانك فهذه هي العبقرية

إن تبلغ الذروة فى الخطابة فأنت ديموستن ، وإن تبلغ الذروة في الشعر فأنت بيرون ، وإن تبلغ الذروة فى الزعامة فأنت بركليس ، وإن تبلغ الذروة في الحكمة فأنت لقمان ، وإن تبلغ القمة فى فنون الحرب فأنت نابليون ، و إن تبلغ الذروة في التشريع فأنت سولون .

أما أن تكون كل هؤلاء ، و أن تمتحنك الأيام في كل صفة فتلغ فيها غاية المدى دون مدرسة أو معلم فهو الإعجاز بعينه .. و إذا حدث فإنه لا يُفسر إلا بأن نبوة و مدد و عون من الله الوهاب وحده .

و هذا برهاني على نبوة محمد .

فها أنت أمام رجل إذا تحدث كان أبلغ البلغاء ، وإذا نطق كان أفصح الفصحاء . . لا ينطق عن هوى ، ولا يتحدث عن حفيظة ، وإنما عن حكمة الحكيم وبصر البصير الملهم .. وهذه أحاديثه المجموعة تشهد لنا بأنها من جوامع الكلم .

فإذا ذهب هذا المحدث الهادئ ليحارب رأينا فيه مقاتلا فذاً و مُخطِطاً عسكريا من الطراز الأول .

فهذا هو ينظم جيشه في معركة أُحُد فيضع خمسين من الرماة على شعب من الجبل في خلفية الجيش المقاتل وهو يقول لهم :

( احموا لنا ظهورنا .. والزموا مكانكم لا تبرحوه ، وإن رأيتمونا ندخل معسكر العدو فنهزمهم فلا تفارقوا مكانكم . . وإن رأيتموهم يحملون علينا فيغلبوننا ويقتلوننا فلا تدافعوا عنا ، وإنما عليكم أن ترشقوا خيلهم بالنبل ، فإن الخيل لا تقدم على النبل » .

و نعلم الآن أن انكسار المسلمين فى أحد كان بسبب مخالفة هؤلاء الرماة لتعليمات الرسول ونزولهم من الجبل لاهتبال الغنائم حينما رأوا فرار الكفار . .

فالتف خالد بن الوليد ( وكان قائد الكفار فى ذلك الوقت ) وهاجم جيش المسلمين من الخلف وقلب انتصار المسلمين إلى هزيمة .

فماذا يفعل هذا القائد المهزوم .

إننا نرى صورة أخرى من صور الجرأة و بُعد النظر والمخاطرة الدقيقة المحسوبة . . فما تكاد تمر أربع و عشرون ساعة حتى نراه يجمع هذا الجيش من الجرحى والهلكى ليتبع جيش المنتصرين العائد إلى مكة . . فيقع في روع أبي سفيان قائد الكفار أن محمداً جاء من المدينة بمدد جديد . . ويتنادي الجنود أن محمداً قد خرج فى أصحابه يطلبكم في جمع لم ير مثله قط ، و قد اجتمع معه من كان قد تخلف عنه .. و كلهم أشد ما يكون طلباً للثأر ..

ويبلغ جيش الجرحى حمراء الأسد فيوقدون النيران ثلاث ليال متتابعة موهمين الأعداء أنهم ينظمون أنفسهم لوثبة تقضى على جيشهم ..فتتزعزع همة أبي سفيان وتتضعضع ، وينسحب بجيشه مسرعاً إلى مكه خيفة أن يفقد انتصاره الذي كسبه سهلا في أحد ..

ويعود الجيش المكسور وقد استردّ شيئاً من حميته وكرامته التي أهدرتها الهزيمة . . ولا يعرف وزن هذا الكسب النفسى إلا كل عسكرى محترف ..

هذه العملية الجريئة بكل ما تضمنته من مخاطرة مهلكة تكشف عن مخطط من طراز فريد .

ثم إذا جد الجد والتهب الموقف نجد هذا المخطط العبقرى الذى مكانه .. المؤخرة يتحول فجأة ليقف فى المقدمة والنبل والحراب والسيوف تزمجر من حوله والموت يحصد الرقاب وهو ثابت كالجبل ، وهذه وقفة النبي يوم حنين .. يوم أمطر الأعداء جيش المسلمين بوابل من النبل م أعالي الجبل في عماية الفجر ، فأنزلوا الفوضى والاضطراب في صفوفهم ، فكروا فرارا وقد أطلقوا سيقانهم للريح حتى قال أبو سفيان ساخرا : لن تنتهى هزيمتهم دون البحر . وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة في شماتة : اليوم أدرك ثأرى من محمد .

فماذا فعل محمد ، وهو يرى انكسار اثنى عشر ألف محارب مسلم وضياع عشرين سنة من الكفاح ، في غمضة عين ؟ . . لقد ثَبُت وسط طوفان الأرجل التي تهرول مذعورة من حوله . . وسمّر رجليه في الأرض وجيش العدو ينزل من أعالى الجبل فى ألوف يطارد المسلمين ويجند لهم صرعى من يمين وشمال .. والنبى يحاول أن يندفع فى وجه السيل الجارف ويحث بغلته البيضاء ، وابن الحارث بن عبد المطلب يردّ خطامها خوفاً على النبي والعباس بن عبد المطلب يصيح بصوته الجهورى في الهاربين : يا معشر الأنصار .. يا معشر المهاجرين الذين بايعوا تحت الشجرة .. إن محمداً حي ، فهلموا .

و محمد صامد وسط الموت يصيح : إلى أين ؟ .. إلى أين أيها الناس ؟ .. أنا النبي لا كذب . . اثبتوا . .

وتمر لحظة هائلة بوزن التاريخ کله لحظة تتغير فيها المصاير . وتمس القلوب وقفة النبي القائد أمام الموت ..

ويعود الهاربون يتصايحون من كل جانب . . لبيك . . لبيك يا نبي الله ، ويلوى كل رجل عنان فرسه ليقتحم المعركة وتلتحم الأسنة .

ويذكر الرواة فناء قبيلتين من القبائل المسلمة في هذا الالتحام عن آخرهما وانقلاب الهزيمة إثر ذلك إلى انتصار ساحق .. وأحصى المسلمون من الغنائم ذلك اليوم اثنين وعشرين الفاً من الإبل ، و اربعين ألفاً من الشاء ، وأربعة آلاف أوقية من الفضة ، وستة آلاف أسير نقلوا محروسين إلى الجعرانة .

ولتعلم أي نوع من الأعداء انكسر فى ذلك اليوم .. يكفي أن تسمع هذا الحوار الذي دار بين المسلم الذى جرد سيفه ليقطع رقبة عدوه فلم يُغن السيف شيئاً .. فقال الكافر فى ثبات وصلف وسخرية :

بئس ما سلّحتك أمك ! .. خذ سيفى هذا من مؤخر الرحل ثم اضرب به ، وارفع عن العظام، واخفض عن الدماغ ، فإنى كذلك كنت أضرب به الرجال .. ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة ، فرب يوم والله قد منعت فيه نساءك .

كان هؤلاء الأعداء رجالا كل واحد بألف .. ولم يكن الإسلام يحارب أشباحاً بل صناديد ..

ولم يُخف النبي إعجابه بقائد الأعداء مالك بن عوف ، وكان قد هرب بعد الهزيمة ، وتحّصن في حصون الطائف مع بقية من جيشه ،

فأرسل إليه رسولاً من أهله يبّلغه إن أتاه مسلماً أن يردّ عليه السبايا من أهله كما يرد عليه ماله وعليه زيادة مائة من الإبل .. وما كاد مالك يعلم بهذا الوعد السخي حتى أسرج فرسه خلسة وانسل عائداً إلى النبي ، فأعلن إسلامه ، وأخذ أهله وماله والمائة من الإبل .

وهنا حنكة السياسي الخبير الذى يحاول أن يكسب القلوب والأرواح لا الرقاب والغنائم . . هنا القائد العظيم الذي يعرف أقدار الرجال ولو كانوا أعداءه .

ثم ماذا كان موقف محمد من هذا السيل من الغنائم وقد تكالب عليه المسلمون يتخاطفونه ؟

لقد وقف مغضباً إلى جانب بعير فأخذ وبرة من سنامه فجعلها بين أصبعيه ثم رفعها وقال :

أيها الناس ، والله ما لى فى هذه الغنائم ولا هذه الوبرة إلا الخُمس ، والخُمس مردود عليكم ، ردوا على ردائى . أيها الناس ، فوالله لو أن لكم بعدد شجر تهامة إبلا لقسمته عليكم ، ثم ما ألفيتموني بخيلا ولا جباناً ولا كذاباً .

ثم إنه نزل عن نصيبه لهؤلاء الذين كانوا منذ أيام ألد أعدائه ، فأعطى مائة من الإبل أبا سفيان وابنه معاوية والحارث بن كلدة والحارث ابن هشام وسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى والأشراف ورؤساء العشائر ممن أراد أن يؤلف قلوبهم بعد فتح مكة ، وأعطى خمسين من الإبل آخرين أقل من هؤلاء شأناً ومكانة . . مما جعل الأنصار يتهامسون ، سوف يوزع والله محمد الغنائم على قومه .

وحينما سمع محمد بهذا التهامس الذي يدور وراء ظهره جمع الأنصار ليواجههم بهذه المقالة البليغة :

يا معشر الأنصار . . ما هذا الذي سمعته . ، عنكم . . ألم آتكم ضالين فهداكم الله ، وعالة فأغناكم الله ، وأعداء فألف الله بين قلوبكم ؟

قالوا : بلى والله

ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟

بماذا نجيبك يا رسول الله ؟

أما والله لو شئتم لقلتم فلصَدقتم ولصُدِّقتم ، أتيتنا مكذباً فصدقناك ، ومخذولا فنصرناك ، وطريداً فآويناك ، وعائلا فآسيناك . . استكثرتم يا معشر الأنصار لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ، ووكلتكم إلى إسلامكم .. ألا ترضون يا معشر الأنصار أن تذهب الناس بالشاء والبعير وترجعوا برسول الله فى رحالكم .. فو الذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت واحداً من الأنصار ، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار .. اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار .

قال النبي هذه الكلمات البليغة فى تأثر ؛ فبكى الأنصار وقالوا : رضينا برسول الله قسماً وحظا .

وبذلك أظهر النبي زهده في هذا المال الوافر الذي غنم من حنين ، وجعله وسيلة ليكسب به قلوب هؤلاء الذين كانوا منذ أيام كفارا ، ليروا في الدين الجديد وسيلة إلى ربح الدنيا وربح الآخرة .

وهنا منتهى بعد النظر والبصيرة بقلوب الرجال وحسن السياسة للجموع المختلفة المصالح والأهواء ، ثم ينزل القرآن ليصف هذه المعركة التي انقبلت من هزيمة إلى نصر ، ويكشف بعض أسرارها .

لقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثرتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ . ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُ وا وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ) . ( التوبه : ٢٥ ، ٢٦ )

تلك السكينة التى ثبتت الرسول والمؤمنين كانت مدداً ، ولقد أنزل مع تلك المسكينة جنودا لم يروها . .

من هم هؤلاء الجنود ؟

ذلك هو الغيب .

وإن مثل تلك المعركة الهائلة لا يمكن أن يقتنع العقل بتحولاتها السريعة الفجائية دون أن يتصوّر أن هناك سنداً مجهولا من الغيب كان يعمل من وراء حجاب .

ومثلها معركة بدر حينما التقى ثلثمائة مسلم ، ليس فيهم من عدة الحرب إلا ثلاثة أفراس ، وألف من كفار قريش فى الحديد والدروع يتقدمهم من مائة فارس على خيلهم .

ومحمد يدعو ويبتهل ممدود الذراعين إلى ربه : « اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تكذب رسولك .. اللهم فنصرك الذي وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد ) .

ولا يزال يهتف بر به حتى سقط رداؤه

أي عقل يمكن أن يتصور هذه القلة بسلاحها البدائي تهزم هذه الكثرة في الحديد والدروع دون سند من الغيب .

ويحكى القرآن كاشفاً بعض أسرار هذه المعركة :

وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلاف مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ . بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ منَ الْمَلائِكَةِ مُسَوَّمِينَ . وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ : ومَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ العَزِيزِ الْحَكِيم » . ( آل عمران : ١٢٣ – ١٢٦ )

وفي موضع آخر إِذْ يُوحَى رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنَّى مَعَكُمْ فَثَّبِتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأَلْقي في قلوب الذينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوق الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُل بنان ) . ( الأنفال : ١٢ )

وفي آية أخرى :

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رمى ( الأنفال : ١٧ )

هذه بعض أسرار الغيب ، وبعض أسرار التأييد الإلهي حين ترتفع القلوب ، ولا تتكافأ القوى المادية بعضها أمام بعض حينئذ يأتى المدد الخفى ، فيحقق عداله الله الأزلية من حيث لا ترى العين ولا تسمع الأذن .

وهذا محمد النبي وقد اجتمعت فيه كمالات بلغ في كل منها الذروة ، فهو العابد المبتهل الذى يذوب خشوعاً ويفنى حبا ، وهو المقاتل الصنديد الذي يتعرض لجحافل الموت ثابت القدم وألوف الأبطال والفرسان يفرون أمامه كالجرذان ، وهو المخطط العبقرى الذى يرسم الخطط فيتفوق على أهل الحرفة ، وهو السياسي الحاذق الذي يحرك المجاميع ويمسك بمقاليد المشاعر بمهارة المايسترو المبدع ، وهو المحدث الذي ينطق بجوامع الكلم وهو الأب ، الزوج والصديق ، وهو صاحب الدعوة الذي يقيم نظاماً وينشئ دولة من عدم ( من قبائل وشرافم متفرقة لا تعرف إلا قطع الطريق والثأر والتفاخر بالأحساب والأنساب ) ، وهو برزخ الأسرار المكاشف بالملكوت الذي يستمع إلى الله وملائكته كما نستمع نحن بعضنا إلى بعض بالغاً بذلك القمة فى علوم الظاهر وعلوم الباطن معاً ، وفي الوقت نفسه .. وهو الكريم الحليم الودود الرءوف الصبور الباش البسام اللطيف المعشر ، لا تمنعه الأعباء الجسام من ملاطفة الطفل والوليد فيحمله على كتفه راكعاً وساجد وقائماً ، ولا من مغازلة زوجه فى حنان .. لا ينضب لعواطفه معين وكأنه يستمد من بحر . .

هذه الذات هي المعجرة .

واجتماع هذه الكمالات فى ذات واحدة معجزة وليست عبقرية فالعبقرية هي تتفوق في صفة واحدة وحسب .. أما أن تكون ذواتنا مجمع كمالات فهنا نبوة ..

هنا أمر لا يمكن أن يكون إلا بمدد إلهي وعصمة وتوفيق وتمكين وإفاضة ممن عنده كنوز كل شيء .

وهذا برهانى على نبوة محمد

إننا أمام ذات متفردة تماماً ، مستوفية أسباب الكمال ، جامعة لِأقصى الأطراف في كل شيء ، فاعلة منفعلة ، نشيطة مؤثرة ، تصنع بطلا من كل رجل تلمسه ، وكأنما لها أثر السحر فى كل ما حولها ثم فيمن بعدها ثم في التاريخ بطول أربعة عشر قرناً .. ثم فيما يستجد بعد ذلك من مستقبل إلى آخر الزمان .

نحن لسنا إذن أمام أبراهام لنكولن ، ولا أمام جيفارا كما تصور أصحابنا قِصار النظر دعاة المادية الجدلية ودعاة العلمية بلا علمية .

نحن لسنا أمام مصلح اجتماعي .. ولا أمام ثورة إسبارتاكوس الاجتماعية .

لا … لقد هزلت تلك التشبيهات . بل ظلموا أنفسهم وظلموا نبيهم .. ونقصوه وما قدروه .

بل نحن أمام ذات . . تسبح وتقدس من أنشأها في الأزل وبعثها للأبد رحمة للعالمين وصلى عليها في عليائه ، تمجد وتبارك في آياته :

إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلَّمُوا تَسْلِياً ، ( الأحزاب : ٥٦ )

صلوات الله عليك يا محمد .. یا رحمة لنا إلى آخر الدهر .

…….. يتبع


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

السيرة النبوية الشريفة بقلم الدكتور مصطفى محمود الجزء _٤ _

قصة سيدنا نوح عليه السلام

السيرة النبوية الشريفة بقلم الدكتور مصطفى محمود الجزء _ ٤ _